فصل: مطلب فِي أَكْلِ الطِّيبِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب يُسَنُّ غَسْلُ الْيَدِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ

وَغَسْلُ يَدٍ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ وَيُكْرَهُ بِالْمَطْعُومِ غَيْرَ مُقَيَّدِ ‏(‏وَ‏)‏ يَحْسُنُ يَعْنِي يُسَنُّ وَيَنْدُبُ ‏(‏غَسْلُ يَدٍ‏)‏ أَيْ غَسْلُ الْيَدَيْنِ إنْ أَرَادَ الْأَكْلَ ‏(‏قَبْلَ‏)‏ تَنَاوُلِ ‏(‏الطَّعَامِ‏)‏ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ لَا يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ وَقَيْسٌ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ قَرَأْت فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ بَرَكَةَ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ بَعْدَهُ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرْته بِمَا قَرَأْت فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ ‏,‏ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ ‏"‏ قَالَ فِي الْآدَابِ‏:‏ ذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه فَقَالَ‏:‏ مَا حَدَّثَ بِهِ إلَّا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ ‏,‏ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ‏,‏ وَقَدْ ضَعَّفَ قَيْسًا هَذَا جَمَاعَةٌ وَوَثَّقَهُ آخَرُونَ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ‏:‏ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ صَدُوقٌ وَفِيهِ كَلَامٌ لِسُوءِ حِفْظِهِ لَا يَخْرُجُ الْإِسْنَادُ عَنْ حَدِّ الْحَسَنِ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَقَدْ كَانَ سُفْيَانُ يَكْرَهُ الْوُضُوءَ قَبْلَ الطَّعَامِ ‏.‏قَالَ الْبَيْهَقِيُّ ‏,‏ وَكَذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ كَرِهَهُ ‏,‏ وَكَذَلِكَ صَاحِبُنَا الشَّافِعِيُّ اسْتَحَبَّ تَرْكَهُ وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ‏:‏ ‏"‏ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى الْخَلَاءَ ‏,‏ ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ فَأَتَى الطَّعَامَ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ أَلَا تَتَوَضَّأُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَمْ أُصَلِّ فَأَتَوَضَّأَ ‏"‏ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ إلَّا أَنَّهُمَا قَالَا‏:‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ إنَّمَا أُمِرْت بِالْوُضُوءِ إذَا قُمْت لِلصَّلَاةِ ‏"‏ انْتَهَى ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ‏:‏ يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ ‏.‏

وَعَنْهُ يُكْرَهُ قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَعَنْهُ يُكْرَهُ قَبْلَهُ ‏.‏

قَالَ مَالِكٌ‏:‏ لَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدِ لِلطَّعَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْيَدِ أَوَّلًا قَذَرٌ ‏,‏ أَوْ يَبْقَى عَلَيْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ رَائِحَةٌ ‏.‏

وَقِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه‏:‏ لِمَ كَرِهَ سُفْيَانُ غَسْلَ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ ‏.‏قَالَ مُهَنَّا ذَكَرْتُهُ‏:‏ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ فَقَالَ‏:‏ مَا أَحْسَنَ الْوُضُوءَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ ‏;‏ وَلِهَذَا قَالَ النَّاظِمُ ‏(‏وَ‏)‏ يَحْسُنُ يَعْنِي يُسَنُّ غَسْلُ يَدٍ ‏(‏بَعْدَهُ‏)‏ أَيْ بَعْدَ الطَّعَامِ طَلَبًا لِلنَّظَافَةِ وَلِلْإِنْقَاءِ مِنْ الْغَمَرِ وَالزُّهُومَةِ ‏.‏

فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ ‏,‏ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْثِرَ اللَّهُ خَيْرَ بَيْتِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ إذَا حَضَرَ غِذَاؤُهُ وَإِذَا رُفِعَ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ نَامَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ ‏"‏ الْغَمَرُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ بَعْدَهُمَا رَاءٌ هُوَ رِيحُ اللَّحْمِ وَزُهُومَتُهُ ‏.‏

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ ‏,‏ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ‏,‏ وَالْبَيْهَقِيُّ ‏,‏ وَالْبَغَوِيُّ ‏,‏ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ الشَّيْطَانَ حَسَّاسٌ لَحَّاسٌ فَاحْذَرُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ‏,‏ مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ فَأَصَابَهُ وَضَحٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ ‏"‏ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ‏:‏ الْوَضَحُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ جَمِيعًا بَعْدَهُمَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْبَرَصُ ‏.‏

‏(‏تَنْبِيهَاتٌ‏)‏‏:‏ الْأَوَّلُ‏:‏ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ ‏,‏ وَالْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ وَغَيْرُهُمَا‏:‏ الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ لَا الْوُضُوءُ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رضي الله عنه‏:‏ لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا اسْتَحَبَّ الْوُضُوءَ لِلْأَكْلِ إلَّا إذَا كَانَ جُنُبًا ‏.‏

قُلْت‏:‏ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْأَصْحَابِ اسْتِحْبَابُهُ ‏,‏ وَقَالَ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ‏:‏ الْوُضُوءُ فِي كَلَامِ رَسُولِنَا صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرِدْ قَطُّ إلَّا وُضُوءُ الصَّلَاةِ ‏,‏ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى يَعْنِي مُرَادًا بِهِ غَسْلَ الْيَدَيْنِ ‏,‏ وَالْفَمِ فِي لُغَةِ الْيَهُودِ ‏.‏

كَمَا رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ فَقَالَ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ ‏,‏ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ تُنُوزِعَ فِي صِحَّتِهِ ‏,‏ وَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فَقَدْ أَجَابَ سُلَيْمَانُ بِاللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَهُ بِهَا أَعْنِي لُغَةَ التَّوْرَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

‏(‏الثَّانِي‏)‏ غَسْلُ الْيَدَيْنِ بَعْدَ الطَّعَامِ مَسْنُونٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً ‏,‏ وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ وَقَبْلَهُ ‏.‏

قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ‏:‏ يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ ‏,‏ وَلَوْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ ‏.‏

وَعِبَارَةُ الْغَايَةِ‏:‏ يُسْتَحَبُّ ‏,‏ وَلَوْ لِمُتَوَضِّئٍ غَسْلُ يَدَيْهِ قَبْلَ أَكْلٍ مُتَقَدِّمًا بِهِ أَيْ بِالْغَسْلِ رَبُّهُ أَيْ رَبُّ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ أَيْ بَعْدَ الْأَكْلِ مُتَأَخِّرًا بِهِ أَيْ الْغَسْلِ رَبُّهُ أَيْ رَبُّ الطَّعَامِ وَغَسْلُ فَمِهِ بَعْدَهُ وَأَنْ يَتَوَضَّأَ الْجُنُبُ قَبْلَهُ ‏.‏

وَمُنَاسَبَةُ ابْتِدَاءِ رَبِّ الطَّعَامِ بِالْغَسْلِ قَبْلَ الْأَكْلِ وَتَأَخُّرِهِ بَعْدَهُ ظَاهِرَةٌ ‏,‏ فَإِنَّهُ يُذَكِّرُهُمْ الْغَسْلَ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ غَيْرِ قَوْلِهِ‏:‏ اغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ فَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْمُرُوءَةِ وَأَمَّا تَأَخُّرُهُ بَعْدَ الْأَكْلِ لِكَوْنِهِ رَبَّ الطَّعَامِ وَأَضْيَافُهُ أَحَقُّ بِالْإِكْرَامِ وَمِنْ إكْرَامِهِمْ تَقْدِيمُهُمْ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ عَلَيْهِ ‏.‏

وَفِي الرِّعَايَةِ يُسَنُّ غَسْلُ يَدَيْهِ وَفَمِهِ مِنْ ثُومٍ وَبَصَلٍ وَرَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي عَدَمِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ فِي الْإِنَاءِ

وَاسْتِحْبَابِ جَعْلِ مَاءِ الْأَيْدِي فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ ‏(‏الثَّالِثُ‏)‏ لَا يُكْرَهُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ فِي الْإِنَاءِ ‏.‏

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ‏:‏ قَالَ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه وَغَيْرُهُمْ مِنْهُمْ أَبُو حَسَنٍ الْآمِدِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ‏:‏ لَا يُكْرَهُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي أُكِلَ فِيهِ ‏;‏ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ ‏,‏ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ وَلَمْ تَزَلْ الْعُلَمَاءُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ ‏,‏ وَإِنَّمَا تُنْكِرُهُ الْعَامَّةُ ‏.‏

‏(‏الرَّابِعُ‏)‏ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْعَلَ مَاءَ الْأَيْدِي فِي طَسْتٍ وَاحِدٍ لِلْخَبَرِ ‏"‏ لَا تُبَدِّدُوا يُبَدِّدْ اللَّهُ شَمْلَكُمْ ‏"‏ ذَكَرَهُ فِي الْآدَابِ ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ نَهَى أَنْ يُرْفَعَ الطَّسْتُ حَتَّى يَطُفَّ ‏"‏ يَعْنِي يَمْتَلِئَ قَالَ‏:‏ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَلِيلُهَا ضَعِيفٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏(‏وَيُكْرَهُ‏)‏ غَسْلُ الْيَدَيْنِ ‏(‏بِ‏)‏ الشَّيْءِ ‏(‏الْمَطْعُومِ‏)‏ كَالدَّقِيقِ مِنْ الْبُرِّ ‏,‏ وَالْحِمَّصِ ‏,‏ وَالْعَدَسِ وَنَحْوِهَا وَلِذَا قَالَ ‏(‏غَيْرَ مُقَيَّدِ‏)‏ بِمَطْعُومٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَقْوَاتِ ‏.‏

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ‏:‏ يُسْتَدَلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الِاغْتِسَالِ بِالْأَقْوَاتِ بِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى خَلْطِهَا بِالْأَدْنَاسِ ‏,‏ وَالْأَنْجَاسِ فَنَهَى عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِهَا قَالَ ‏,‏ وَالْمِلْحُ لَيْسَ قُوتًا ‏,‏ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ ‏,‏ وَأَمَا إنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِعْمَالِ الْأَقْوَاتِ كَاللَّبَنِ وَالدَّقِيقِ لِلْجَرَبِ وَنَحْوِهِ وَالدَّبْغِ بِدَقِيقِ الشَّعِيرِ رَخَّصَ فِيهِ كَمَا رَخَّصَ فِي قَتْلِ دُودِ الْقَزِّ بِالتَّشْمِيسِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إذْ لَا تَكُونُ حُرْمَةُ الْقُوتِ أَعْظَمَ مِنْ حُرْمَةِ الْحَيَوَانِ ‏.‏

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ‏:‏ وَبِهَذَا قَدْ يُجَابُ عَنْ الْمِلْحِ بِأَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ ‏,‏ وَعَلَى هَذَا فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْأَصْلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إهَانَتِهَا بِوَضْعِ الْإِدَامِ فَوْقَهَا كَمَا ذَكَرَهُ سيدنا عَبْدُ الْقَادِرِ ‏.‏

وَدَلِيلٌ آخَرُ ‏,‏ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ وَأَخْذِ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْهَا كُلُّ ذَلِكَ لِئَلَّا يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْ الْقُوتِ ‏,‏ وَالتَّدَلُّكُ بِهِ إضَاعَةٌ لِقِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ ‏,‏ وَهُوَ مِنْ نَوْعِ التَّبْذِيرِ الَّذِي هُوَ مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ ‏.‏

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ‏:‏ وَسُئِلْت عَنْ غَسْلِ الْأَيْدِي بِالْمِسْكِ فَقُلْت‏:‏ إنَّهُ إسْرَافٌ بِخِلَافِ تَتَبُّعِ الدَّمِ بِالْفُرْصَةِ الْمَسْكَةِ ‏,‏ فَإِنَّهُ يَسِيرٌ لِلْحَاجَةِ ‏,‏ وَهَذَا كَثِيرٌ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَاسْتِعْمَالُ الطِّيبِ فِي غَيْرِ التَّطَيُّبِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَاسْتِعْمَالِ الْقُوتِ فِي غَيْرِ التَّقَوُّتِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ‏,‏ وَحَدِيثُ الْبَقَرَةِ إنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِلرُّكُوبِ يُسْتَأْنَسُ بِهِ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ غَسْلُ الْيَدِ بِطِيبٍ ‏,‏ وَلَوْ كَثُرَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ انْتَهَى ‏.‏

وَعَدَمُ الْكَرَاهَةِ الْمَذْهَبُ ‏,‏ وَكَذَا الْغُسْلُ بِالنُّخَالَةِ الْخَالِصَةِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ نَصَّ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي أَكْلِ الطِّيبِ

وَمَا خَشُنَ وَلُبْسِ الرَّقِيقِ ‏,‏ وَالْغَلِيظِ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ ‏,‏ وَأَنَّ تَرْكَ الطَّيِّبَاتِ لَيْسَ مِنْ الزُّهْدِ فِي شَيْءٍ وَكُلْ طَيِّبًا أَوْ ضِدَّهُ وَالْبَسْ الَّذِي تُلَاقِيهِ مِنْ حِلٍّ وَلَا تَتَقَيَّدْ ‏(‏وَكُلْ‏)‏ أَيُّهَا الْعَبْدُ الْمُقْتَفِي سُنَنَ نَبِيِّك الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم ‏(‏طَيِّبًا‏)‏ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ كَاللَّحْمِ وَالسَّمْنِ ‏,‏ وَالْعَسَلِ وَاللَّبَنِ ‏,‏ وَالْخُبْزِ الرَّقِيقِ وَأَنْوَاعِ الْحَلْوَى وَلَا تَتْرُكْهُ تَزَهُّدًا فَلَيْسَ تَرْكُ الطَّيِّبَاتِ مِنْ الزُّهْدِ فِي شَيْءٍ ‏,‏ نَعَمْ لَا يَنْبَغِي الِانْهِمَاكُ فِي اللَّذَّاتِ كَمَا قَدَّمْنَا ‏(‏أَوْ‏)‏ كُلْ ‏(‏ضِدَّهُ‏)‏ أَيْ ضِدَّ الطَّيِّبِ ‏,‏ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا خَشُنَ مِنْ الْعَيْشِ لَا الْخَبَائِثُ ‏,‏ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ‏(‏وَالْبَسْ الَّذِي تُلَاقِيهِ‏)‏ مِنْ أَنْوَاعِ اللِّبَاسِ مِنْ الرَّقِيقِ النَّاعِمِ ‏,‏ وَالْغَلِيظِ الْخَشِنِ حَيْثُ كَانَ الطَّيِّبُ وَضِدُّهُ مِنْ الْمَأْكَلِ ‏,‏ وَالْمَشْرَبِ ‏,‏ وَالْمَلْبَسِ ‏(‏مِنْ‏)‏ وَجْهِ ‏(‏حِلٍّ‏)‏ ‏,‏ وَأَمَا إنْ كَانَ مِنْ مُحَرَّمٍ فَلَا يَسُوغُ لَك أَنْ تَأْكُلَ وَلَا تَلْبَسَ مِنْهُ ‏,‏ فَإِنَّ وَبَالَهُ عَلَيْك وَعَاقِبَتَهُ الْوَخِيمَةَ بَيْنَ يَدَيْك فَلَا يَسُوغُ لَك أَنْ تَعْصِيَ مَوْلَاك وَتُرْضِيَ نَفْسَك وَتُطِيعَ هَوَاك ‏(‏وَلَا تَتَقَيَّدْ‏)‏ بِنَوْعٍ فَقَطْ بِأَنْ لَا تَأْكُلَ إلَّا نَاعِمًا طَيِّبًا ‏,‏ أَوْ لَا تَلْبَسَ إلَّا نَاعِمًا رَقِيقًا وَعَكْسُهُ ‏,‏ فَإِنَّ سِيرَةَ الْمُصْطَفَى أَكْمَلُ السِّيَرِ ‏,‏ وَهُوَ خُلَاصَةُ الْعَالَمِ وَنِهَايَةُ الْبَشَرِ ‏.‏

وَكَانَ يَكُونُ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا ‏.‏

جَوَابُ الْإِمَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الزُّهَّادِ لَا آكُلُ ‏;‏ لِأَنَّ نَفْسِي تَشْتَهِيهِ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ ‏(‏صَيْدِ الْخَاطِرِ‏)‏‏:‏ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ زُهَّادِ زَمَانِنَا أَنَّهُ قُدِّمَ إلَيْهِ طَعَامٌ فَقَالَ‏:‏ لَا آكُلُ فَقِيلَ لَهُ لِمَ‏؟‏ قَالَ ‏;‏ لِأَنَّ نَفْسِي تَشْتَهِيهِ وَأَنَا مُنْذُ سِنِينَ مَا بَلَغَتْ نَفْسِي مَا تَشْتَهِي فَقُلْت‏:‏ لَقَدْ خَفِيَتْ طَرِيقُ الصَّوَابِ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ وَسَبَبُ خَفَائِهَا عَدَمُ الْعِلْمِ ‏.‏

أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ‏,‏ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذَا وَلَا أَصْحَابُهُ ‏,‏ وَقَدْ كَانَ عليه الصلاة والسلام يَأْكُلُ لَحْمَ الدَّجَاجِ وَيُحِبُّ الْحَلْوَى ‏,‏ وَالْعَسَلَ وَدَخَلَ فَرْقَدُ السِّنْجِيُّ عَلَى الْحَسَنِ ‏,‏ وَهُوَ يَأْكُلُ الْفَالُوذَجَ فَقَالَ‏:‏ يَا فَرْقَدُ مَا تَقُولُ فِي هَذَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا آكُلُهُ وَلَا أُحِبُّ مَنْ أَكَلَهُ فَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ لُعَابُ النَّحْلِ بِلُبَابِ الْبُرِّ مَعَ سَمْنِ الْبَقَرِ هَلْ يَعِيبُهُ مُسْلِمٌ‏؟‏ وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ فَقَالَ‏:‏ إنَّ لِي جَارًا لَا يَأْكُلُ الْفَالُوذَجَ فَقَالَ‏:‏ وَلِمَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُ لَا أُؤَدِّي شُكْرَهُ فَقَالَ‏:‏ إنَّ جَارَك جَاهِلٌ وَهَلْ يُؤَدِّي شُكْرَ الْمَاءِ الْبَارِدِ‏؟‏ وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَحْمِلُ فِي سَفَرِهِ الْفَالُوذَجَ وَاللَّحْمَ الْمَشْوِيَّ ‏,‏ وَيَقُولُ‏:‏ إنَّ الدَّابَّةَ إذَا أُحْسِنَ إلَيْهَا عَمِلَتْ ‏,‏ وَمَا حَدَثَ فِي الزُّهَّادِ بَعْدَهُمْ أُمُورٌ مِنْ هَذَا الْفَنِّ مَسْرُوقَةٌ مِنْ الرَّهْبَانِيَّةِ ‏.‏

وَأَنَا خَائِفٌ مِنْ قوله تعالى ‏{‏لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ وَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْأَوَّلِ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ هَذَا الْفَنِّ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعَارِضٍ وَسَبَبٍ ‏,‏ مِثْلُ مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ اشْتَهَى شَيْئًا فَآثَرَ بِهِ فَقِيرًا وَأَعْتَقَ جَارِيَتَهُ رميثه ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ إنَّهَا أَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ حَسَنٌ ‏;‏ لِأَنَّهُ إيثَارٌ بِمَا هُوَ أَجْوَدُ عِنْدَ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِهِ وَأَكْثَرُ لَهَا مِنْ سِوَاهُ ‏,‏ فَإِذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَسَرْت بِذَلِكَ الْفِعْلِ سَوْرَةَ هَوَاهَا أَنْ تَطْغَى بِنَيْلِ كُلِّ طَرِيدٍ ‏,‏ فَأَمَّا مَنْ دَامَ عَلَى مُخَالَفَتِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ‏,‏ فَإِنَّهُ يُعْمِي قَلْبَهَا وَيُبَلِّدُ خَوَاطِرَهَا وَيُشَتِّتُ عَزَائِمَهَا فَيُؤْذِيهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَنْفَعُهَا ‏,‏ وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ‏:‏ إنَّ الْقَلْبَ إذَا أُكْرِهَ عَمِيَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ وَتَحْتَ مَقَالَتِهِ سِرٌّ لَطِيفٌ ‏,‏ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَضَعَ طَبِيعَةَ الْآدَمِيِّ عَلَى مَعْنًى عَجِيبٍ ‏,‏ وَهُوَ أَنَّهَا تَخْتَارُ الشَّيْءَ مِنْ الشَّهَوَاتِ مَا يُصْلِحُهَا فَيَعْلَمُ بِاخْتِيَارِهَا لَهُ صَلَاحَهُ لَهَا وَصَلَاحَهَا بِهِ ‏,‏ وَقَدْ قَالَ حُكَمَاءُ الطِّبِّ‏:‏ يَنْبَغِي أَنْ يُفَسِّحَ النَّفْسَ فِيمَا تَشْتَهِي مِنْ الْمَطَاعِمِ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ ضَرَرٍ ‏;‏ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَخْتَارُ مَا يُلَائِمُهَا ‏,‏ فَإِذَا قَمَعَهَا الزَّاهِدُ فِي مِثْلِ هَذَا عَادَ عَلَى بَدَنِهِ بِالضَّرَرِ ‏,‏ وَلَوْلَا جَوَاذِبُ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الطَّبِيعَةِ مَا بَقِيَ الْبَدَنُ ‏,‏ فَإِنَّ الشَّهْوَةَ لِلطَّعَامِ تَثُورُ ‏,‏ فَإِذَا وَقَعَتْ الْغَنِيمَةُ بِمَا يُتَنَاوَلُ كَفَّتْ الشَّهْوَةُ ‏,‏ فَالشَّهْوَةُ نِعْمَ الْبَاعِثُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَدَنِ غَيْرَ أَنَّهَا إذَا أَفْرَطَتْ وَقَعَ الْأَذَى وَمَتَى مُنِعَتْ مَا تُرِيدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْ فَسَادِ الْعَاقِبَةِ عَادَ ذَلِكَ بِفَسَادِ أَحْوَالِ النَّفْسِ وَوَهْنِ الْجِسْمِ وَاخْتِلَافِ السَّقَمِ الَّذِي يَتَدَاعَى بِهِ الْجَهَلَةُ مِثْلُ أَنْ مَنَعَهَا الْمَاءَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْعَطَشِ ‏,‏ وَالْغِذَاءَ عِنْدَ الْجُوعِ ‏,‏ وَالْجِمَاعَ عِنْدَ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالنَّوْمَ عِنْدَ غَلَبَتِهِ ‏,‏ حَتَّى أَنَّ الْمُغْتَمَّ إذَا لَمْ يَتَرَوَّحْ بِالشَّكْوَى قَتَلَهُ الْكَمَدُ ‏,‏ فَهَذَا أَصْلٌ إذَا فَهِمَهُ هَذَا الزَّاهِدُ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ طَرِيقَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ وَخَالَفَ الْمَوْضُوعَ فِي الْحِكْمَةِ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ وَلَا يَلْزَمُ‏:‏ عَلَى هَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ مِنْ أَيْنَ يَصْفُو الْمَطْعَمُ‏؟‏ ‏;‏ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصْفُ كَانَ التَّرْكُ وَرَعًا ‏,‏ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْمَطْعَمِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَا يُؤْذِي فِي بَابِ الْوَرَعِ وَكَانَ مَا شَرَحْته جَوَابًا لِلْقَائِلِ مَا أُبَلِّغُ نَفْسِي شَهْوَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ ‏.‏قَالَ‏:‏ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنِّي أَخَافُ عَلَى الزَّاهِدِ أَنْ تَكُونَ شَهْوَتُهُ انْقَلَبَتْ إلَى التَّرْكِ فَصَارَ يَشْتَهِي أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ وَلِلنَّفْسِ فِي هَذَا مَكْرٌ خَفِيٌّ وَرِيَاءٌ دَقِيقٌ ‏,‏ فَإِنْ سَلِمَتْ مِنْ الرِّيَاءِ لِلْخَلْقِ كَانَتْ الْآفَةُ مِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِهَا بِمِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ وَإِدْلَالِهَا فِي الْبَاطِنِ بِهِ ‏,‏ فَهَذِهِ مُخَاطَرَةٌ قَالَ وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ هَذَا صَدٌّ عَنْ الْخَيْرِ وَالزُّهْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ‏,‏ فَإِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ‏"‏ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَرَّ بِعِبَادَةِ فُلَانٍ وَلَا بِتَقْوَى فُلَانٍ ‏,‏ إلَى أَنْ قَالَ‏:‏ أَصْلُ الْأُصُولِ الْعِلْمُ ‏,‏ وَأَنْفَعُ الْعِلْمِ النَّظَرُ فِي سِيَرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ ‏{‏أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ‏}‏‏.‏

وَقَالَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ مِنْ صَيْدِ الْخَاطِرِ‏:‏ عَلَفُ النَّاقَةِ مُتَعَيَّنٌ لِقَطْعِ الْمَنْزِلِ ‏,‏ أَلَا تَرَى إلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ‏,‏ فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْمَعْرِفَةِ ‏,‏ وَالْخَوْفِ وَكَانَ يَأْكُلُ اللَّذِيذَ وَيَقُولُ‏:‏ إنَّ الدَّابَّةَ إذَا لَمْ يُحْسِنْ إلَيْهَا لَمْ تَعْمَلْ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامِي هَذَا يَقُولُ هَذَا مَيْلٌ عَلَى الزُّهَّادِ فَأَقُولُ كُنْ مَعَ الْعُلَمَاءِ وَانْظُرْ إلَى طَرِيقِ الْحَسَنِ وَسُفْيَانَ ‏,‏ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَهَؤُلَاءِ أُصُولُ الْإِسْلَامِ وَلَا تُقَلِّدْ فِي دِينَك مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ ‏,‏ وَإِنْ قَوِيَ زُهْدُهُ وَاحْمِلْ أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُطِيقُ هَذَا وَلَا تَقْتَدِ بِهِمْ فِيمَا لَا تُطِيقُهُ فَلَيْسَ أَمْرُنَا إلَيْنَا وَالنَّفْسُ وَدِيعَةٌ عِنْدَنَا ‏.‏

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ‏:‏ وَأَمَا الْمَطْعَمُ فَالْمُرَادُ بِهِ تَقْوِيَةُ هَذَا الْبَدَنِ لِخِدْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏,‏ وَحَقٌّ عَلَى ذِي النَّاقَةِ أَنْ يُكْرِمَهَا لِتَحْمِلَهُ ‏.‏

‏,‏ َقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مَا وَجَدَ ‏,‏ فَإِنْ وَجَدَ اللَّحْمَ أَكَلَهُ وَيَأْكُلُ لَحْمَ الدَّجَاجِ ‏,‏ وَأَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ الْحَلْوَى ‏,‏ وَالْعَسَلُ ‏,‏ وَمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ مُبَاحٍ قَالَ‏:‏ وَجِيءَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِفَالُوذَجٍ فَأَكَلَ مِنْهُ ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ يَوْمَ النَّيْرُوزِ فَقَالَ‏:‏ نورزونا كُلَّ يَوْمٍ ‏,‏ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ ‏,‏ وَاللُّبْسُ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَالِ ‏,‏ وَالْبَطَرِ ‏.‏

وَقَدْ اقْتَنَعَ أَقْوَامٌ بِالدُّونِ مِنْ ذَلِكَ ‏;‏ لِأَنَّ الْحَلَالَ الصَّافِيَ لَا يَكَادُ يُمْكِنُ فِيهِ تَحْصِيلُ الْمُرَادِ وَإِلَّا فَقَدْ لَبِسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً اُشْتُرِيَتْ بِسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَعِيرًا ‏.‏

وَكَانَ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه حُلَّةٌ اُشْتُرِيَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يُصَلِّي فِيهَا بِاللَّيْلِ فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتْبَعَ الدَّلِيلَ لَا أَنْ يَتْبَعَ طَرِيقًا وَيَطْلُبَ دَلِيلَهَا ‏,‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ الْإِنْسَانُ أَعْرَفُ بِصَلَاحِ نَفْسِهِ ‏,‏ وَقَدْ قَالَتْ رَابِعَةُ‏:‏ إنْ كَانَ صَلَاحُ قَلْبِك فِي الْفَالُوذَجِ فَكُلْهُ وَلَا تَكُونَنَّ مِمَّنْ يَرَى صُوَرَ الزُّهْدِ فَرُبَّ مُتَنَعِّمٍ لَا يُرِيدُ التَّنَعُّمَ ‏,‏ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْمَصْلَحَةَ وَلَيْسَ كُلُّ بَدَنٍ يَقْوَى عَلَى الْخُشُونَةِ خُصُوصًا مَنْ قَدْ لَاقَى الْكَلَّ وَأَجْهَدَ الْفِكْرَ انْتَهَى ‏.‏

فَإِنْ قُلْت‏:‏ لِمَ لَمْ تَذْكُرْ أَكْلَهُ صلى الله عليه وسلم الْفَالُوذَجَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ‏:‏ أَوَّلُ مَا سَمِعْنَا بالْفَالُوذَجِ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ ‏.‏

قُلْت هَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَتَعَقَّبَهُ السُّيُوطِيُّ قَائِلًا‏:‏ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ الْحَسَنِ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ إنْ وَجَدْت لَهُ مُتَابِعًا جَزَمْت بِحُسْنِهِ فَعَلَى كَلَامِ السُّيُوطِيِّ الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ ‏,‏ وَعَلَى كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ مَوْضُوعٌ ‏,‏ وَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ الْفَالُوذَجَ دِيَارَ الْعَرَبِ

‏(‏فَائِدَةٌ‏)‏ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ الْفَالُوذَجَ دِيَارَ الْعَرَبِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَطْعَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ ذَلِكَ بِالشَّامِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ فَوَجَّهَ إلَى الْيَمَنِ مَنْ جَاءَ لَهُ بِمَنْ يَعْمَلُ الْفَالُوذَج بِالْعَسَلِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْأَوَائِلِ ‏.‏

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ أَيْضًا‏:‏ أَوَّلُ مَنْ خَبَّصَ الْخَبِيصَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه خَلَطَ الْعَسَلَ وَالنَّقِيَّ مِنْ الدَّقِيقِ ‏,‏ ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَنْزِلِ أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ‏:‏ مَنْ بَعَثَ بِهَذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ عُثْمَانُ قَالَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ إنَّ عُثْمَانَ يَسْتَرْضِيك فَارْضَ عَنْهُ ‏.‏

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي تَرْكِ مَا تَعَافُهُ النَّفْسُ بِلَا تَعْنِيفٍ وَلَا عَيْبٍ

وَمَا عِفْتَهُ فَاتْرُكْهُ غَيْرَ مُعَنِّفٍ وَلَا عَائِبٍ رِزْقًا وَبِالشَّارِعِ اقْتَدِ ‏(‏‏,‏ وَمَا‏)‏ أَيُّ طَعَامٍ ‏(‏عُفْتَهُ‏)‏ أَيْ كَرِهْته ‏,‏ يُقَالُ عَافَ الطَّعَامَ أَوْ الشَّرَابَ ‏,‏ وَقَدْ يُقَالُ فِي غَيْرِهِمَا يَعَافُهُ إذَا كَرِهَهُ ‏(‏فَاتْرُكْهُ‏)‏ وَلَا تُلْزِمْ نَفْسَك أَكْلَهُ وَلَا تُكَلِّفُهَا تَنَاوُلَهُ ‏,‏ فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ إنَّمَا تَخْتَارُ مَا يُصْلِحُهَا وَتَعَافُ مَا يُفْسِدُهَا غَالِبًا حَالَ كَوْنِك ‏(‏غَيْرَ مُعَنِّفٍ‏)‏ أَيْ مُوَبِّخٍ وَمُقَرِّعٍ ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ ‏"‏ إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَحُدَّهَا وَلَا يُعَنِّفْهَا ‏"‏ قَالَ فِي النِّهَايَةِ‏:‏ التَّعْنِيفُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ وَاللَّوْمُ يُقَالُ أَعْنَفْته وَعَنَّفْته ‏.‏

أَرَادَ النَّاظِمُ أَنَّك إذَا عُفْتَ شَيْئًا فَاتْرُكْ أَكْلَهُ وَلَكِنْ لَا تُعَنِّفْ مَنْ أَكَلَهُ فَرُبَّ شَيْءٍ يَعَافُهُ قَوْمٌ دُونَ آخَرِينَ هَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ وَإِلَّا بِأَنْ كَانَ تَحْرِيمُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ ‏,‏ أَوْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ ‏,‏ وَاَلَّذِي يَأْكُلُهُ يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ عُنِّفَ وَوُبِّخَ عَلَى ذَلِكَ وَأُنْكِرَ عَلَيْهِ ‏;‏ لِأَنَّهُ مِنْ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ ‏,‏ فَمَنْ عَافَ شَيْئًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ تَنَاوُلُهُ وَلَيْسَ لَهُ الْإِنْكَارُ عَلَى مُتَنَاوِلِهِ ‏.‏

وَقَدْ امْتَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَكْلِ الضَّبِّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقِيلَ لَهُ‏:‏ أَحَرَامٌ هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ ‏"‏ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ لَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الضَّبَّيْنِ الْمَشْوِيَّيْنِ بَزَقَ فَقَالَ خَالِدٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَاك تقذرته وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ ‏"‏ لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ كُلُوهُ ‏,‏ فَإِنَّهُ حَلَالٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي ‏"‏ وَمِنْ ثَمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى حِلِّ الضَّبِّ ‏(‏وَلَا‏)‏ أَيْ وَغَيْرُ ‏(‏عَائِبٍ رِزْقًا‏)‏ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْك وَرَزَقَك إيَّاهُ ‏(‏وَبِالشَّارِعِ‏)‏ الْمُقْتَفَى ‏,‏ وَالْمُبَيِّنِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم ‏(‏اقْتَدِ‏)‏ فِي سَائِرِ أَقْوَالِك وَأَفْعَالِك ‏,‏ فَإِنَّ ذَلِكَ أَسْلَمُ لَك وَأَقْوَى لَك ‏,‏ فَإِنَّهُ عليه السلام مَا عَابَ طَعَامًا قَطُّ ‏.‏

فَقَدْ رَوَى الْخَمْسَةُ ‏,‏ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا سَكَتَ ‏"‏ ‏,‏ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ إلَّا أَنَّهَا قَالَتْ ‏"‏ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ ‏"‏ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ هِنْدَ بْنِ أَبِي هَالَةَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَذُمُّ ذَوَّاقًا وَلَا يَمْدَحُهُ أَيْ كَانَ لَا يَصِفُ الطَّعَامَ بِطِيبٍ ‏,‏ أَوْ فَسَادٍ إنْ كَانَ فِيهِ ‏.‏

قَالَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ لِلْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَرُدُّ مَوْجُودًا وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا ‏,‏ وَمَا قُرِّبَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الطَّعَامِ إلَّا أَكَلَهُ إلَّا أَنْ تَعَافَهُ نَفْسُهُ فَيَتْرُكَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ ‏,‏ وَمَا عَابَ طَعَامًا قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ صلى الله عليه وسلم ‏.‏

 مطلب فِي كَرَاهَةِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ

وَثُلْمَةِ الْإِنَاءِ عليه الصلاة والسلام وَلَا تَشْرَبَنْ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَثُلْمَةِ الْ إنَاءِ وَانْظُرَنْ فِيهِ وَمَصًّا تَزَرَّدِ ‏(‏وَلَا تشربن‏)‏ نَهْيُ كَرَاهَةٍ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ ‏(‏مِنْ فِي‏)‏ أَيْ فَمِ ‏(‏السِّقَاءِ‏)‏ الْقِرْبَةِ وَنَحْوِهَا قَالَ فِي الْقَامُوسِ السِّقَاءُ كَكِسَاءٍ جِلْدُ السَّخْلَةِ إذَا أجذع يَكُونُ لِلْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَجَمْعُهُ أَسْقِيَةٌ ‏.‏

وَذَلِكَ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الشَّرَابِ مِنْ فِي السِّقَاءِ ‏.‏

فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ‏,‏ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ ‏"‏ زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ أَبُو أَيُّوبَ ‏"‏ فَأُنْبِئْت أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ ‏"‏ وَلِأَنَّ الشُّرْبَ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ رُبَّمَا يُقَذِّرُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَيُنَتِّنُهُ بِتَرَدُّدِ أَنْفَاسِهِ وَرُبَّمَا غَلَبَهُ الْمَاءُ فَتَضَرَّرَ بِهِ مِنْ شَرْقٍ وَنَحْوِهِ ‏.‏

وَعَنْ أُمِّ ثَابِتٍ كَبْشَةَ بِنْتِ ثَابِتٍ أُخْتِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ شَاعِرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ ‏"‏ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا فَقُمْت إلَى فِيهَا فَقَطَعْتُهُ ‏"‏ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ‏,‏ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ ‏,‏ وَإِنَّمَا قَطَعَتْهُ لِتَحْفَظَ مَوْضِعَ فَمِهِ الشَّرِيفِ وَتَتَبَرَّكَ بِهِ وَتَصُونَهُ عَنْ الِابْتِذَالِ ‏,‏ فَهَذَا الْحَدِيثُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ ‏,‏ وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ ‏.‏

فَالْأَفْضَلُ ‏,‏ وَالْأَكْمَلُ عَدَمُ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ ‏,‏ وَالْجَرَّةِ وَنَحْوِهِمَا وَيُكْرَهُ ذَلِكَ إلَّا لِحَاجَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لَا تشربن مِنْ ‏(‏ثُلْمَةِ الْإِنَاءِ‏)‏ أَيْ الْوِعَاءِ وَالثُّلْمَةُ الْكَسْرُ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ الثُّلْمَةُ بِالضَّمِّ حَرْفُهُ الْمَكْسُورُ ‏,‏ وَالْمَهْدُولُ يَعْنِي الْإِنَاءَ فَيُكْرَهُ لِلشَّارِبِ أَنْ يَقْصِدَ الثُّلْمَةَ فَيَشْرَبَ مِنْهَا ‏;‏ لِأَنَّهَا مَحَلُّ اجْتِمَاعِ الْوَسَخِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ غَسْلِهَا تَامًّا وَخُرُوجِ القذا وَنَحْوِهِ مِنْهَا وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ حُسْنِ الشُّرْبِ مِنْهَا وَرُبَّمَا انْجَرَحَ بِحَدِّهَا وَلِأَنَّهُ يُقَالُ‏:‏ الرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَا خَيْرَ فِيهِ ‏.‏

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يُنْفَخَ فِي الشَّرَابِ ‏"‏ ‏.‏

وَفِيهِ قُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جِبْرِيلَ الْمِصْرِيُّ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ ‏,‏ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ‏:‏ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا فَيُتَوَجَّهُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ عِنْدَهُ وَتَرْكُهُ أَوْلَى انْتَهَى وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ ‏,‏ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ‏,‏ وَصَحَّحَ حَدِيثَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا بِعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِ انْتَهَى فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ مَعْلُولٌ وَمُخْتَلَفٌ فِي ثُبُوتِهِ ‏,‏ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تَرْكُ الشُّرْبِ مِنْ الثُّلْمَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَمَالِ وَحُسْنِ الِامْتِثَالِ سِيَّمَا وَالرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَا خَيْرَ فِيهِ ‏.‏

وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ رَأَى مَنْ يَشْتَرِي حَاجَةً رَدِيئَةً فَقَالَ‏:‏ لَا تَفْعَلْ أَمَا عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ نَزَعَ الْبَرَكَةَ مِنْ كُلِّ رَدِيءٍ ‏.‏

وَمِثْلُ الثُّلْمَةِ الشُّرْبُ مُحَاذِيًا لِلْعُرْوَةِ ‏.‏

قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ‏:‏ وَلَا يَشْرَبُ مُحَاذِيًا لِلْعُرْوَةِ وَيَشْرَبُ مِمَّا يَلِيهَا ‏,‏ وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّ هَذَا وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ ‏;‏ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَصَاحِبُ الرِّعَايَةِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ ذَكَرَ أَدَبَ ذَلِكَ ‏,‏ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ‏}‏ وَاحِدُهَا كُوبٌ إنَاءٌ مُسْتَدِيرٌ لَا عُرْوَةَ لَهُ أَيْ لَا أُذُنَ لَهُ ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ لِأَنَّ الْعُرْوَةَ تَرُدُّ الشَّارِبَ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَذَكَرَ فِي الْإِقْنَاعِ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَعِبَارَتُهُ‏:‏ وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِيهِ أَيْ الْإِنَاءِ وَأَنْ يَشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَثُلْمَةِ الْإِنَاءِ أَوْ مُحَاذِيًا لِلْعُرْوَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِرَأْسِ الْإِنَاءِ انْتَهَى ‏(‏وانظرن‏)‏ فِعْلُ أَمْرٍ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ ‏(‏فِيهِ‏)‏ أَيْ الْإِنَاءِ الَّذِي تَشْرَبُ مِنْهُ لِئَلَّا يَكُونَ فِيهِ قَذَاةٌ وَنَحْوُهَا ‏(‏وَ‏)‏ مُصَّ الْمَاءَ ‏(‏مَصًّا‏)‏ ‏,‏ وَهُوَ الشُّرْبُ بِرِفْقٍ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ مصصته بِالْكَسْرِ أَمُصُّهُ وَمَصَصْته أَمُصُّهُ كخصصته أَخُصُّهُ شَرِبْته شُرْبًا رَقِيقًا كامتصصته ‏.‏

وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصَّ الْمَاءَ مَصًّا وَلَا يَعُبَّهُ عَبًّا ‏,‏ فَإِنَّ مِنْهُ الْكُبَادَ ‏"‏ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ فَإِنَّ مِنْهُ أَيْ مِنْ الشُّرْبِ عَبَّا ‏.‏

‏,‏ وَالْكُبَادُ بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ أَيْ وَجَعُ الْكَبِدِ ‏,‏ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ ‏.‏

‏,‏ وَالْعَبُّ شُرْبُ الْمَاءِ جَرْعًا وَتَتَابُعُهُ وَكَرْعُهُ وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ‏:‏ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مُصُّوا الْمَاءَ مَصًّا وَلَا تَعُبُّوهُ عَبًّا ‏"‏ الْعَبُّ الشُّرْبُ بِلَا تَنَفُّسٍ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ ‏"‏ الْكُبَادُ مِنْ الْعَبِّ ‏"‏ قَالَ‏:‏ وَالْكُبَادُ دَاءٌ يَعْرِضُ لِلْكَبِدِ ‏.‏

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ الْكُبَادُ مِنْ الْعَبِّ هُوَ بِالضَّمِّ وَجَعُ الْكَبِدِ وَالْعَبُّ شُرْبُ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ مَصٍّ انْتَهَى ‏.‏

وَقَوْلُ النَّاظِمِ ‏(‏تَزَرَّدِ‏)‏ هُوَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ مِنْ الِازْدِرَادِ ‏,‏ وَهُوَ الْبَلْعُ أَيْ مُصَّ الْمَاءَ مَصًّا وَابْتَلِعْهُ وَلَا تَعُبَّهُ عَبًّا فَتَفُوزَ بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَسْلَمَ مِنْ دَاءِ الْكَبِدِ وَكُلِّ مَا أَلَمَّ ‏,‏ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ بَهْزٍ قَالَ‏:‏ ‏"‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ عَرَضًا وَيَشْرَبُ مَصًّا وَيَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ هُوَ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ ‏"‏ ‏,‏ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَكْتَمَ وَلَفْظُهُ‏:‏ ‏"‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ عَرَضًا وَيَشْرَبُ مَصًّا وَيَقُولُ هُوَ أَهْنَأُ ‏"‏ ‏.‏

 مطلب فِي تَنْحِيَةِ الْإِنَاءِ عَنْ الْفَمِ وَالشُّرْبِ ثَلَاثًا

وَنَحِّ الْإِنَاءَ عَنْ فِيكَ وَاشْرَبْ ثَلَاثَةً هُوَ أهنا وَأَمْرَا ثُمَّ أَرْوَى لِمَنْ صَدِي ‏(‏وَنَحِّ‏)‏ أَيْ افْصِلْ وَأَبِنْ ‏(‏الْإِنَاءَ‏)‏ أَيْ الْوِعَاءَ الَّذِي فِيهِ مَاءُ شُرْبِك ‏(‏عَنْ فِيك‏)‏ أَيْ فَمَك ‏,‏ اقْتِدَاءً بِالْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ ‏(‏وَاشْرَبْ ثَلَاثَةً‏)‏ أَيْ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ ‏(‏هُوَ‏)‏ أَيْ الشُّرْبُ كَذَلِكَ ‏(‏أَهْنَأُ‏)‏ لِلشَّارِبِ ‏,‏ وَالْهَنِيءُ ‏,‏ وَالْمُهَنَّأُ مَا أَتَاك بِلَا مَشَقَّةٍ ‏,‏ وَهُوَ هَنِيءٌ سَائِغٌ ‏(‏وَأَمْرَأُ‏)‏ لِلشَّارِبِ مِنْ غَيْرِهِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ وَمَرَأَ الطَّعَامُ مُثَلَّثَةُ الرَّاءِ مَرَاءَةً فَهُوَ مَرِيءٌ هَنِيءٌ حَمِيدُ الْمَغَبَّةِ بَيْنَ الْمَرَاءَةِ ‏,‏ وَهَنَّأَنِي ومرأني ‏,‏ وَإِنْ أُفْرِدَ فأمرأني ‏,‏ يَعْنِي أَنَّ لَفْظَةَ مرأني لِلْمُشَاكَلَةِ وَإِلَّا فَحَقِيقَتُهَا أَمْرَأَنِي وَكَلَأٌ مَرِيءٌ غَيْرُ وَخِيمٍ ‏.‏

‏(‏ثُمَّ‏)‏ الشُّرْبُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ كَمَا وُصِفَ ‏(‏أَرْوَى‏)‏ أَيْ أَكْثَرُ رِيًّا وَأَحْسَنُ رِيًّا ‏,‏ وَهُوَ مِنْ الرِّيِّ بِكَسْرِ الرَّاءِ غَيْرِ مَهْمُوزٍ ‏(‏لِمَنْ‏)‏ أَيْ لِشَخْصٍ ‏(‏صَدِي‏)‏ عَطِشٍ ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ ‏"‏ لَتَرِدُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَوَادِيَ ‏"‏ أَيْ عِطَاشًا ‏.‏

صَدِي كَرَضِي ‏,‏ صَدًى فَهُوَ صَدٍ وَصَادٍ وَصَدْيَانُ ‏,‏ وَهِيَ صَدْيَا وَصَادِيَةٌ إذَا كَانَ عَطْشَانَ ‏.‏

وَدَلِيلُ مَا ذُكِرَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفَّسُ إذَا شَرِبَ ثَلَاثًا ‏"‏ زَادَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ ‏"‏ وَيَقُولُ إنَّهُ أَرْوَى وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ ‏"‏ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ ‏"‏ أَهْنَأُ بَدَلَ أَرْوَى ‏"‏ وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ‏:‏ ‏"‏ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ يَوْمًا فَشَرِبَ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ ‏,‏ فَقُلْت‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَشْرَبُ الْمَاءَ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ هُوَ أَشْفَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ ‏"‏ وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ‏"‏ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ جَرْعَةً ‏,‏ ثُمَّ قَطَعَ ‏,‏ ثُمَّ سَمَّى ‏,‏ ثُمَّ جَرَعَ ‏,‏ ثُمَّ قَطَعَ ‏,‏ ثُمَّ سَمَّى الثَّالِثَةَ ‏,‏ ثُمَّ جَرَعَ ‏,‏ ثُمَّ مَضَى فِيهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ ‏,‏ فَلَمَّا شَرِبَ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ شَرَابًا قَطُّ إلَّا تَنَفَّسَ فِيهِ ثَلَاثًا كُلُّهَا يَقُولُ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ ‏,‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ‏"‏ ‏.‏

وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ‏,‏ وَهُوَ ‏,‏ وَالْبَزَّارُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ بِثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى فِي أَوَّلِهَا إذَا أَدْنَى الْإِنَاءَ مِنْ فِيهِ وَيَحْمَدُهُ فِي آخِرِهَا إذَا أَخَّرَهُ ‏"‏ ‏.‏

إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَك الِاقْتِدَاءُ بِمَعْدِنِ التَّقْوَى وَيَنْبُوعِ الْهُدَى ‏,‏ وَلَا تَشْرَبْ كَشُرْبِ الْبَعِيرِ ‏,‏ بَلْ تَنَفَّسْ خَارِجَ الْإِنَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ‏,‏ هَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ الْمَسْنُونُ ‏.‏

وَصِفَةُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّق أَنْ تَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ وَتَشْرَبَ ‏,‏ ثُمَّ تُبِينَ الْإِنَاءَ عَنْ فِيك وَتَقُولَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَتَتَنَفَّسَ خَارِجَهُ كَمَا مَرَّ ‏,‏ ثُمَّ تَفْعَلَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ كَذَلِكَ ‏.‏

إلَّا أَنَّ الشُّرْبَ فِي النَّفَسِ الْأَوَّلِ يَكُونُ أَقَلَّ مِمَّا بَعْدَهُ ‏;‏ لِأَنَّ الْأَبْخِرَةَ تَتَصَاعَدُ مِنْهُ أَكْثَرُ مِمَّا بَعْدَهُ ‏.‏

قَالَ السَّامِرِيُّ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ كُلِّ ابْتِدَاءٍ يَعْنِي الشَّارِبَ ‏,‏ وَيَحْمَدَهُ عِنْدَ كُلِّ قَطْعٍ انْتَهَى ‏.‏

 مطلب فِي حُكْمِ الشُّرْبِ قَائِمًا وَلَا تَكْرَهَنَّ الشُّرْبَ مِنْ قَائِمٍ

وَلَا انْتِعَالَ الْفَتَى فِي الْأَظْهَرِ الْمُتَأَكِّدِ ‏(‏وَلَا تَكْرَهَنَّ الشُّرْبَ‏)‏ لِلْمَاءِ وَنَحْوِهِ ‏(‏مِنْ‏)‏ شَخْصٍ ‏(‏قَائِمٍ‏)‏ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي مُوسَى مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ مُسْتَدِلًّا بِمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه ‏"‏ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ وَفِي لَفْظٍ نَهَى عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا ‏"‏ وَرُوِيَ أَيْضًا بِاللَّفْظَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه ‏.‏

قِيلَ لِأَنَسٍ‏:‏ فَالْأَكْلُ‏؟‏ قَالَ ذَاكَ أَشَرُّ وَأَخْبَثُ ‏.‏

وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ‏"‏ ‏,‏ فَإِذَا نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ ‏"‏ ‏.‏

وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ‏"‏ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ مِنْ دَلْوٍ مِنْهَا ‏,‏ وَهُوَ قَائِمٌ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أُتِيَ بِمَاءٍ فَشَرِبَ ‏,‏ ثُمَّ تَوَضَّأَ ‏,‏ ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ ‏,‏ وَهُوَ قَائِمٌ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ إنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا ‏,‏ وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ ‏.‏

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ ‏"‏ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ قَائِمًا وَقَاعِدًا ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ لَئِنْ شَرِبْتُ قَائِمًا لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ قَائِمًا وَلَئِنْ شَرِبْت قَاعِدًا لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ قَاعِدًا ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ ‏"‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ قَائِمًا وَقَاعِدًا ‏"‏ ‏.‏

وَأَبُو يَعْلَى بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَشْرَبُ قَائِمًا ‏"‏ ‏.‏

فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَأَضْعَافُهَا مِمَّا فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَشْرَبُ قَائِمًا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ وَيَتَوَجَّهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا لِيُبَيِّنَ بِهِ الْجَوَازَ ‏,‏ وَأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ ‏.‏

وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ ‏,‏ أَوْ لِتَرْكِ الْأَوْلَى ‏.‏

قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما‏:‏ كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَمْشِي وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ ‏.‏

رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ‏,‏ وَقَدْ مَرَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا شَرِبَ قَائِمًا فَقَالَ لَهُ‏:‏ قِهْ ‏,‏ قَالَ‏:‏ وَلِمَهْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَيَسُرُّكَ أَنْ يَشْرَبَ مَعَك الْهِرُّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا ‏,‏ قَالَ ‏,‏ فَإِنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَعَكَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ الشَّيْطَانُ ‏"‏ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ‏,‏ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِي يَشْرَبُ قَائِمًا مَا يَجْعَلُ فِي بَطْنِهِ لَاسْتَقَاءَ ‏"‏ ‏.‏

فَإِنْ قُلْت‏:‏ بَيْنَ النَّهْيِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ وَالْفِعْلِ مُعَارَضَةٌ ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ لَا مُعَارَضَةَ ‏,‏ وَالْأَخْبَارُ صَحِيحَةٌ وَلَا عِبْرَةَ بِزَعْمِ دَعْوَى النَّسْخِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ فَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى ‏,‏ وَالْكَرَاهَةُ التَّنْزِيهِيَّةُ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الشُّرْبَ قَائِمًا مَكْرُوهٌ ‏.‏

وَشُرْبُهُ عليه الصلاة والسلام قَائِمًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ ‏,‏ وَمَتَى كَانَ فِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَهُوَ تَشْرِيعٌ مُثَابٌ عَلَيْهِ لَا مَكْرُوهٌ ‏,‏ بَلْ الْبَيَانُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ قِهْ ‏"‏ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ ‏.‏

وَمِنْ نَظْمِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ رحمه الله تعالى قَوْلُهُ‏:‏ إذَا رُمْتَ تَشْرَبُ فَاقْعُدْ تَفُزْ بِسُنَّةِ صَفْوَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ ‏,‏ وَقَدْ صَحَّحُوا شُرْبَهُ قَائِمًا وَلَكِنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ

 مطلب وَلِلشُّرْبِ قَائِمًا آفَاتٌ

وَلَا يُسَوَّغُ شُرْبُ الْمَاءِ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ وَفِي زَادِ الْمَعَادِ لِلْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ رحمه الله تعالى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ‏:‏ مِنْ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم الشُّرْبُ قَاعِدًا ‏.‏

كَانَ هَدْيُهُ الْمُعْتَادَ ‏.‏ وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا ‏.‏ وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا ‏.‏

فَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا ‏,‏ فَإِنَّمَا شَرِبَ قَائِمًا لِلْحَاجَةِ ‏.‏

فَإِنَّهُ جَاءَ إلَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْهَا فَاسْتَقَى ‏,‏ فَنَاوَلَهُ الدَّلْوَ فَشَرِبَ ‏,‏ وَهُوَ قَائِمٌ ‏.‏

وَهَذَا كَانَ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ ‏.‏

قَالَ وَلِلشُّرْبِ قَائِمًا آفَاتٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا لَا يَحْصُلُ الرِّيُّ التَّامُّ بِهِ وَلَا يَسْتَقِرُّ فِي الْمَعِدَةِ حَتَّى يَقْسِمَهُ الْكَبِدُ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَيُنْزِلُهُ بِسُرْعَةٍ وَحِدَّةٍ إلَى الْمَعِدَةِ ‏.‏

فَيُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُبْرِدَ حَرَارَتَهَا وَيُسْرِعَ النُّفُوذُ إلَى أَسْفَلِ الْبَدَنِ بِغَيْرِ تَدْرِيجٍ ‏.‏

وَكُلُّ هَذَا يَضُرُّ بِالشَّارِبِ ‏,‏ فَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ نَادِرًا أَوْ لِحَاجَةٍ فَلَا ‏.‏

وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِالْعَوَائِدِ ‏,‏ فَإِنَّ الْعَوَائِدَ لَهَا طَبَائِعُ ثَوَانٍ وَلَهَا أَحْكَامٌ أُخْرَى ‏.‏

‏,‏ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْخَارِجِ عَنْ الْقِيَاسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

‏(‏فَوَائِدُ‏:‏ الْأُولَى‏)‏ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ لَا يُسَوَّغُ شُرْبُ الْمَاءِ طِبًّا فِي عَشَرَةِ أَشْيَاءَ‏:‏ بَعْدَ الطَّعَامِ ‏,‏ وَالْحَمَّامِ ‏,‏ وَالْحَلْوَى ‏,‏ وَالْجِمَاعِ ‏,‏ وَالتَّعَبِ ‏,‏ وَشُرْبِ دَوَاءٍ مُسْهِلٍ ‏,‏ وَأَكْلِ فَاكِهَةٍ ‏,‏ وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ النَّوْمِ ‏,‏ وَبَعْدَ أَكْلٍ سُخْنٍ ‏,‏ وَالشُّرْبُ وَهُوَ جَائِعٌ ‏.‏

وَأَمَّا الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَالَ‏:‏ يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ شُرْبَ الْمَاءِ عَلَى الرِّيقِ ‏,‏ وَبَعْدَ الْحَمَّامِ ‏,‏ وَعَقِبَ الْجِمَاعِ ‏,‏ وَبَعْدَ الْفَاكِهَةِ ‏,‏ وَعِنْدَ الِانْتِبَاهِ مِنْ النَّوْمِ ‏.‏

وَأَمَا عَلَى الطَّعَامِ فَلَا بَأْسَ إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ ‏.‏

وَلَا يُكْثِرُ مِنْهُ ‏,‏ بَلْ يَمُصُّ مَصًّا ‏,‏ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ الْبَتَّةَ ‏.‏

 مطلب إذَا شَرِبَ يُنَاوِلُ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ

‏(‏الثَّانِيَةُ‏)‏ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ إذَا شَرِبَ أَنْ يُنَاوِلَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ ‏.‏

وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْمَشْرُوبَاتِ عَنْ اللَّبَنِ ‏,‏ وَالْحَلْوَى ‏,‏ وَالْمَاءِ وَنَحْوِهَا ‏.‏

قَالَ عُلَمَاؤُنَا كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ ‏,‏ وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهِمَا‏:‏ وَكَذَا غَسْلُ يَدِهِ وَرَشُّ الْمَاوَرْدِ وَنَحْوِهِ انْتَهَى ‏.‏

كَالْبَخُورِ وَالصَّابُونِ ‏.‏

وَيَبْدَأُ فِي ذَلِكَ بِالْأَفْضَلِ ‏,‏ ثُمَّ بِمَنْ عَلَى الْيَمِينِ لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ أَنَسٍ رضي الله عنها ‏"‏ أَنَّهَا حُلِبَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ دَاجِنٌ ‏,‏ وَهُوَ فِي دَارِ أَنَسٍ رضي الله عنه ‏,‏ ثُمَّ شِيبَ لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي فِي دَارِ أَنَسٍ فَأَعْطَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِيَشْرَبَ مِنْهُ ‏,‏ وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ ‏,‏ وَعَلَى يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ ‏.‏

فَجَاءَ عُمَرُ وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَعْرَابِيَّ ‏.‏

فَقَالَ أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ ‏"‏ وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه وَلَفْظُهُ ‏"‏ أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَارِنَا هَذِهِ فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً ‏,‏ ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِنَا هَذِهِ فَأَعْطَيْتُهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ وَعُمَرُ تُجَاهَهُ وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ عُمَرُ هَذَا أَبُو بَكْرٍ ‏,‏ فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ ‏,‏ قَالَ أَنَسٌ‏:‏ فَهِيَ سُنَّةٌ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ‏,‏ وَالْحُمَيْدِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ‏:‏ ‏"‏ دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى مَيْمُونَةَ رضي الله عنها فَجَاءَتْنَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ ‏,‏ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ أَلَا أَسْقِيكُمْ مِنْ لَبَنٍ أَهْدَتْهُ لَنَا أُمُّ عَقِيقٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى ‏,‏ فَجِيءَ بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَنْ يَمِينِهِ وَخَالِدٌ عَنْ شِمَالِهِ فَقَالَ‏:‏ الشَّرْبَةُ لَك فَإِنْ شِئْتَ آثَرْتَ بِهَا خَالِدًا ‏.‏

فَقُلْتُ مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِسُؤْرِكَ أَحَدًا ‏,‏ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ‏:‏ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ‏,‏ وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَجْزِي مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرَهُ ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا ‏"‏ ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ اللَّبَنُ ‏,‏ وَالْوِسَادَةُ وَالدُّهْنُ ‏"‏ ‏.‏

وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ‏:‏ قَدْ كَانَ مِنْ سِيرَةِ خَيْرِ الْوَرَى صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ طُولَ الزَّمَنِ أَنْ لَا يُرَدَّ الطِّيبَ ‏,‏ وَالْمُتَّكَأَ وَاللَّحْمَ أَيْضًا يَا أَخِي وَاللَّبَنِ